هل يمتلك الشعر العامي من الأدوات ما يمكّنه من الوصول إلى تقديم مادة ثقافية شعرية ركيزتها
الأولى هي الصورة والتعبير؟ أم أنه سيظل مراوحاً في منطقة الفن الشعبي المرتبط تحديداً
بالموسيقى المباشرة، بالشكل المعروف الذي يحض على الغناء والطرب؟؟
بداية، للموضوع شقان: الشق الأول هو موضوع المزاوجة بين الشعر (المحكي في حالتنا)
والموسيقى بأوزانها وإيقاعاتها الناظمة للحروف والقوافي والكلمات، والتي تتبع أوزاناً
عروضية تختلف في صرامتها بين التفعيلات المجزأة والبحور الشعرية المعروفة.
الشق الثاني، حول قدرة اللهجة المحكية، وبغرار الفصحى، على تكوين مادة شعرية جديدة لا
ترتبط شرطاً بالموسيقى المباشرة.
في الشق الأول، اسمحوا لي أن أبدي دهشتي من هذا التطرف الذي أراه من بعض شعراء
الحداثة إزاء مزاوجة الشعر بالموسيقى التقليدية، تلك التي تتطلب من صائغ الكلمات أن
يضعها في قالب من الصنعة موزون ومقفّى. ودهشتي لا تتأتى من إيماني بضرورة وجود هذه
المزاوجة، بل من ثقتي بأن الجيد من الشعر يمكنه أن يأخذ أي قالب، سواء ارتبط هذا الشعر
بالتفعيلة والوزن أم تحرر منها
طبعاً، لا أتحدث هنا عن أشعار هي في النهاية صف كلمات بشكل رياضي تخرج علينا في
النهاية بشكل قصيدة، وهي أبعد ما تكون عن الشعر. لاحظوا معي أن صف الكلمات بشكل حر
فيما يشبه القصيدة الحديثة وارد أيضاً. العبرة إذاً ليست في الشكل، بل في المضمون.
في الشعر المحكي، كما في الشعر بالفصحى، هناك قصائد مغناة تذوب رقة وانسياباً، وتقدم
مادة شهية للفكر بالرغم من ارتباطها الوثيق بالوزن، لا بل حتى بالتفعيلة العروضية، ولعل
التجربة المصرية في هذا المجال هي الأقوى والأبرز.
كمثال على هذه القصائد، سأضع مقطعاً من قصيدة للشاعر مجدي نجيب من ديوان صهد الشتا:
مركب ورق ..
خدني معاه .. طفت ف قلق
وشربت آخر الليل عرق
ورجعت كلمه ف وش دنيا من نحاس
صدّت عليا بسمتي
برضك أنا ..؟!
لكن خسرت الريح وصاحبي و القمر
وخسرت حتى حسرتي
كما نلاحظ، فالشعر هنا يلتزم بالتفعيلة (مستفعلن)، ويلتزم بالقافية، ولكن هيهات أن تكون
هذه الأبيات مجرد صف كلمات أو مجرد دعوة تقليدية للطرب بطرقه التقليدية المعروفة.
بل ربما من الطريف هنا أن أذكر أن أشهر الأغاني المسلوقة التي نعرفها، والتي وضعها
كتاب للأغاني لا يمتون للشعر بصلة، لا تلتزم في حقيقة الأمر إلا بقافية مصطنعة، وأوزانها
مكسورة تماماً، وتعتمد في تلحينها على مطمطة بعض الحروف والمقاطع، وهذه عموماً
أغنيات وكلمات لا تعمر طويلاً.
في المقابل، بقيت في ذاكرتنا جميعاً أغنيات كتبها شعراء ممتازون كرائعة ميشال طراد
( رح حلفك بالغصن يا عصفور) ، والتي غناها كما هو معروف الرائع وديع الصافي، وهي
قصيدة موزونة، تتبع مجتزئات بحر الرجز أيضاً.)تجدون على هذا الرابط تحليلاً ممتازاً لهذه الأغنية من جهة البناء الشعري والموسيقي)
نصل الآن إلى الشق الثاني:
هل ارتباط القصيدة المحكية بالموسيقى إلزامي لهذا الحد؟ وهل خلا ديوان العامية من تجارب
تركّز على الفكرة والصورة والموسيقى الداخلية، ولو على حساب الموسيقى التقليدية بما تتطلبه
من التزام بالوزن والقافية.
أعود إلى كنز مجدي نجيب، فأضع بين يديكم هذه الكلمات:
حبلوا ف سابع يوم .. مش تاسع شهر
وف كل جنازه ..
اتلموا جنب الميت ..
ولا شاوروا ف يوم ع البطن
يمكن كانت بنت ..؟؟
لأ .. كان واد ..
كان عيّل عمره ما راح الكُتاب
لكن بيموت م الحرف
حبلوا ف سابع يوم .. مش تاسع شهر؟؟
ولا شاوروا ف يوم ع البطن
يمكن كانت ليله ف حضن القهر
الخوف عيّل ولدوه الرجّاله ؟؟
إزاي ..؟ ماعرفش
هل يستطيع أحد أن يدّعي أن هذه الصور الرائعة قد خضعت لقيود الوزن والقافية؟؟ أليس
العكس هو الأصح؟؟ وأن الإحساس بالوزن، وورود القافية جاءا فقط في المكان الذي لا يحول
دون إظهار الصورة؟؟
من تجربتي القصيرة والمتواضعة، لاحظت أمراً نغّص عليّ فرحتي القصيرة ببعض النصوص
التي كتبتها (وهي عموماً باللهجة المحكية)، هذا الأمر هو أنني لم أستطع أن أصوغها في لغة
أخرى دون أن أفقدها ما لا يقل عن خمسين بالمئة من قربها من الشعر!!
أذكر أني قرأت يوماً أن مسألة الترجمة هذه كانت من العوامل التي حفزت بعض شعراء الحداثة
من قاموا بالترجمة، ولكن النصوص كانت كلها تفيض شعراً، والمثير للدهشة أكثر أن الترجمة
كانت شبه حرفية!!!
أعتقد أن جزءاً من هذا التناقض بين الشعر والغناء هو مع الموسيقى، ومع الغناء تحديداً، قبل
أن يكون مع الشعر، فالغناء العربي لم يخرج بعد من قوقعة المطرب والكورس، المغني
والمرددين، وهذا ما يخلق دعوة دائمة إلى صوغ قصيدة تستجدي هذا الأسلوب.
يقال أن سيد درويش كان يلحّن مقالات الجرائد، ولا أظن أن الأذن تنتبه إلى أن أغنية المحبة التي
شدت بها فيروز هي نثر صرف كما هو معروف.
فهل هذا العناق المؤجل بين الشعر (بصرف النظر عن لغته) وبين الغناء، هو في النهاية رهن
لتطور الذوق الغنائي والموسيقي، وظهور أشكال جديدة ثورية ترفضها حتى الآن الأذن العربية؟
وددت أن أنوّه في هذا الصدد إلى تجربة فريدة وجميلة لم أكن على اطلاع كاف عليها لولا أن
شاهدت صدفة بالأمس ريبورتاجا ً مطوّلاً عنه، ثم بحثت في الانترنت، فوجدت ما أدهشني ولربما